
البيعة في نظام الحكم بالمغرب: الجذور والامتدادات
محمد الفلاح العلوي
مدخل:
من الصفات الأساسية التي يتصف بها نظام الحكم في المغرب: استقرار السلطة، وإذا كان هذا الأمر مرتبط بمجموعة من المعطيات التاريخية التي تطورت في تاريخ المغرب منذ دخول الإسلام إليه وتعاقب مجموعة من الأسر والأرومات الحاكمة فيه، فإن شكل نظام الحكم واعتماده على المبايعة وفق الأحكام الشرعية المعروفة في التشريع الإسلامي والأحكام التي عرفها محللوها من علماء الإسلام باسم “الأحكام السلطانية” كان له دور كبير في هذا الاستقرار طبعا إلى جانب المعطيات التاريخية الأخرى التي تحكم الظروف العامة والخاصة لكل مرحلة من مراحل تاريخ المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى عهد الحماية. حيث سيدخل المغرب مرحلة ما بعد الحماية مرتبطاً بجذوره التاريخية رأسمالها امتداداً في تاريخه مرتبطا بجذوره التاريخية رأسمالها امتداداً في تاريخه المعاصر مع محلولات عدة لتطوير وتجديد آليات الحكم دون التخلي عن الأسس المرجعية لهذا الحكم. ما يهمني في هذا الموضوع، هو توضيح تلك الجذور في امتداداتها التاريخية فيما يخص جانباً أساسياً يتجاوب فيه الشكل والمضمون يعطي اختزالاً لمفهوم نظام الحكم، إلا أنه بحاجة ماسة إلى الكثير من المقاربات العلمية لا يحد هذا المقال سوى مدخل لها:
1- أصول البيعة:
أ- الأصل اللغوي:
من خلال الرجوع إلى مختلف المصادر التي بحثت في البيعة، نجد أنها تحمل في طياتها صفة التعاقد والتعاهد على غرار عقود البيع والشراء والزواج وغيره، ويقول القلقشندي في صبح الأعشى:
” البيعات جمع بيعة، وهي مصدر بايع فلان الخليفة يبايعه مبايعة. ومعناها المعاقدة والمعاهدة. وهي مشبهة بالبيع الحقيقي. قال أبو السعادات ابن الأثير في نهايته في غريب الحديث: كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه.
أعطاه خالصة نفسه وطاعته، ودخيلة أمره. ويقال بايعه وأعطاه صفقة يده. والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب أنه إذا تبايع اثنان صفق أحدهما بيده على يد صاحبه”. نفس هذا التعريف نجده عند ابن خلدون وغيره، ولهذا يمكن اعتبار البيعة عقداً وعهداً بين السلطان والمبايعين له كل طرف فيه يلتزم بما تعهده به.
ب – الأصل الديني:
أخذت البيعة أهميتها الدينية من تعظيم الإسلام لها حيث ذكرت في عدة آيات قرآنية للتأكيد على أهميتها وأهمية العهد الذي تتضمنه. ومن هذه الآيات:
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه فسنوتيه أجرا عظيما).
وفي آية أخرى:
( لقد رضي الله على المومنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيزا حكيما).
وفي الحديث النبوي حث على أهمية أخذ البيعة لولي الأمر عند المسلمين، واعتبار هذا الأمر جزءا من تمام إسلام المسلمين:
“من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.
“من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية”.
هذا الاهتمام الديني بالبيعة في القرآن والحديث جعل الإجماع عليها من أصول مشروعيتها إتباعا للآية القرآنية:( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة).
ج – أصلها في التاريخ الإسلامي:
كانت بيعة أبي بكر بالخلافة في الإسلام أول بيعة في تاريخ الإسلام بعد عهد الرسول. وهي المعروفة ببيعة السقيفة والمعروف عنها أنها لم تكن مكتوبة. وفي هذا يقول القلقشندي: “لكن لم ينقل أنه رضي الله عنه كتب له مبايعة بذلك. ولعل ذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا بايعوا لا يجحدون البيعة بعد صدورها بخلاف ما بعد ذلك”.
وبعد ذلك جاءت بيعات بقية الخلفاء الراشدين غير مكتوبة كذلك مع اختلاف ظروف عقد كل بيعة، فبيعة عمر جاءت بعهد من أبي بكر بعد استشارة خاصة من الصحابة. وبيعة عثمان جاءت عن طريق الشورى بين ستة من الصحابة تبعا لوصية عمر بذلك. وبيعة علي جاءت من طرف فريق من الثوار على عثمان بعد مقتله. ثم إن تفجر الوضع مع مآل الأمر للأمويين جعل البيعة تأخذ تطوراً جديداً مع العهد الأموي وما بعده، فكيف كان ذلك؟
من خلال صبح الأعشى يمكن أن تستنتج أن أخذ البيعة لولي الأمر استمر دون أن يكتب نص وثيقة بذلك. إلا أن التطور الذي حصل يكمن في ترتيب أيمان مغلظة مخافة نقض البيعة بعد أخذها. وكمحاولة للضغط على الثوار عن سلطة الخلفاء.
يقول القلقشندي في صبح الأعشى:
“ولما كانت خلافة بني أمية وآل الأمر إلى عبد الملك بن مروان، وأقام الحجاج بن يوسف على إمارة العراق وأخذ في أخذ البيعة لعبد الملك بالعراق، رتب أيماناً مغلظة تشتمل على الحلف بالله تعالى والطلاق والعتاق والأيمان المحرجات يحلف بها على البيعة، واشتهرت بين الفقهاء بأيمان البيعة، واطرد أمرها في الدولة العباسية بعد ذلك. وجرى مصطلحهم في ذلك على هذا الأسلوب”.
أما كتابة البيعة فلم تكن معروفة إلا لمن ولي الخلافة بعهد، ويشير القلقشندي في كتابه صبح الأعشى إلى أن كتابة البيعات كانت تخص بلاد المغرب، ولم تنتشر بالمشرق فيقول:
“واعلم أن المقر الشهابي بن فضل الله ذكر في التعريف، أن من قام من الملوك بغير عهد ممن قبله لم تجر العادة بأن يكتب لهم مبايعة. وكأنه يريد اصطلاح بلاد المشرق والديار المصرية. أما بلاد المغرب فقد جرت عادة مصطلحهم بكتابة البيعات لملوكهم، وذلك أنه ليس عندهم خليفة يدينون له يتقلدون الملك بالعهد منه، بل جلهم أو كلهم يدعي الخلافة فهم يكتبون البيعات لهذا المعنى”.
د – البيعة عند فقهاء المسلمين:
إن البحث في البيعة عند الفقهاء ارتبط بمعالجتهم لاختيار صاحب الأمر عند المسلمين. وهكذا تطرقوا إليها عند الحديث عن الخلافة، أو عن الإمامة أو السلطان، وهذه الألقاب رغم الاختلافات الموجودة بينهما، فهي تجتمع في أنها تدل على صاحب الأمر الأول في أي مجتمع إسلامي. والماوردي في الأحكام السلطانية، يعطي صورة عن رأي الفقهاء، ويمكن إجمال النقط التي تطرق إليها كالتالي:
– ثبوت وجوب الإمامة عقلاً وشرعاً.
– بيان مجموع الشروط التي يجب أن توفرها فيمن يختار لتولية الأمر.
– بيان الشروط التي يجب توفرها في من سيختار ( أهل الحل والعقد).
– بيان ما يلزم الإمام من الأمور وما يلزم الرعية.
– بيان ما يستدعي خروج الإمامة عن صاحبها (الخلع).
ومن خلال هذه النقط يتجلى لنا أن عقد البيعة مرتبط بأمور متعددة من الوجهة الفقهية، تهم شخص المبايع له، والفئات المبايعة، وشروط العقد وما يبطل هذا العقد ويمكن تلخيص ذلك كالتالي:
1-الشروط التي تهم شخص المبايع له:
أ- ما يشترط فيه: سلامة الحواس – سلامة الأعضاء – الرأي المفضي إلى سياسة الرعية- الشجاعة- النسب في قريش- العدالة – العلم المؤدي إلى الاجتهاد.
ب – ما يلزمه بعد المبايعة: حفظ الدين- تنفيذ الأحكام- حماية بلاد المسلمين – إقامة الحدود-تحصين الثغور- جهاد من عائد الإسلام – جباية ما ألزمه الشرع نصا واجتهاداً- الخ….
ج- ما يستدعي خلفه: جرح في عدالته- نقص في بدنه.
2- ما يهم الفئات المبايعة:
– العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة.
– الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح.
3- شروط العقد وما يبطله:
شروطه: بيان ما يجب على الإمام وقد مر ذكره- وما يجب على الرعية وهو الطاعة والنصرة.
ما يبطله : وهي نفس الشروط التي تستدعي الخلع.
I- البيعة ونظام الحكم في المغرب:
– ما قبل العهد العلوي:
الملاحظ أن الأصول السالفة الذكر للبيعة هي ما حدد نظام البيعة في المغرب منذ عهد الدولة الإدريسية. فالمغرب اتجه في نظامه السياسي عامة إلى ما يعرف في الدراسات الحديثة بالدولة السلطانية على مذهب السنة والجماعة الذي جاء مع انتشار مذهب الإمام مالك في المغرب، وفي هذا الصدد يقول عبد الحي الكتاني:
” في كنز الأسرار للمقري: سبب اشتهار مذهب مالك بالمغرب واقتصارهم عليه وأمر مولانا إدريس لهم باتباعه رواية مالك في الموطإ عن جده عبد الله الكامل، وفتياه بخلع أبي جعفر المنصور العباسي وبيعته لمحمد النفس الزكية وعهده لأخيه ادريس الأكبر بالخلافة بعده قاله ابن خلدون، فكان مالك هو السبب في ولايتهم الملك، فقال ادريس: نحن أحق باتباع مذهبه وقراءة كتابه- يعني الموطإ- وأمر بذلك في جميع عمالته”.
ومن خلال قراءة بعض البيعات يتجلى لنا فيها التأكيد على ما سبق ذكره.
البيعة كوثيقة مكتوبة قديمة في المغرب ومن بين النماذج القديمة بيعة عبد الكريم بن يحيى صاحب عدوة الأندلسيين من فاس للخليفة الحكم المستنصر بالله الأموي وتظهر فيها صفة أيمان البيعات جلية.
أما بالنسبة للبيعات التي تخص سلاطين المغرب قبل العهد العلوي، أثبت هنا فقط ما كانت تردده الفئات المبايعة لسلاطين الموحدين:
يقول عبد الواحد المراكشي في المعجب عند الحديث عن المستنصر بالله أبو يعقوب يوســــــف (610هـ) ” وبويع البيعة الخاصة يوم الخميس، ويم الجمعة بايعه أشياخ الموحدين والقرابة. وفي يوم السبت أذن للناس عامة.
شهدت ذلك اليوم وأبو عبد الله بن عياش الكاتب قائم يقول للناس:
” تبايعون أمير المؤمنين ابن أمراء المؤمنين على ما بايع عليه أصحاب رسول الله (ص)، رسول الله من السمع والطاعة في المنشط والمكره واليسر والعسر. والنصح له ولولايته ولعامة المسلمين. هذا ما له عليكم ولكم عليه: ألا يحجر بعوثكم وألا يدخر عنكم شيئا مما تعمكم مصلحته، وأن يعجل لكم عطاءكم، وألا يحتجب دونكم. أعانكم الله على الوفاء وأعانه على ما قلد من أموركم”.
يعيد هذا القول لكل طائفة إلى أن انقضت البيعة.
2 – البيعة في العهد العلوي:
بوصول العلويين إلى الحكم في المغرب أصبحت البيعة تشكل جانباً من نظم الدولة له أهميته. خصوصاً بعد الاهتمام بكتابتها لما تمثله من رمز للتنظيم السياسي للسلطة في البلاد. وباعتبارها دستور لتأسيس الدولة أو إعادة تقويتها، إن صح هذا الافتراض.
إلا أن النصوص المكتوبة للبيعات لم يصلنا منها حسب المصادر إلا ما تعلق بالخصوص بالنصف الثاني من القرن 19 وما قبل ذلك تعتبر قليلة أو منعدمة بالنسبة لبعض الفترات. إلا أن هذا لا يعني عدم وجودها، فهذا أكنسوس يورد في الجيش العرمرم عند حديثه عن بيعة مولاي إسماعيل ما نصه:
” فانعقدت له البيعة وحضرها الأكابر من أهل المغرب ووافق عليها أهل الحل والعقد من العلماء والأشراف كالشيخ أبي محمد عبد القادر الفاسي والشيخ أبي علي اليوسي…”.كما أن الزياني في البستان الظريف يورد نص بيعة أهل فاس للسلطان مولاي عبد الله، وقد ذكرها أكنسوس تقلاً عنه، كما أوردها الناصري في الاستقصا.
والناصري كذلك ينقل لنا بيعة اليزيد بن محمد بن عبد الله من طرف أهل مراكش، وكذلك بيعة أهل فاس للسلطان مولاي سليمان. أما بعد ذلك فنجد نصوص بيعات متعددة مع عهد عبد الرحمان بن هشام، ومن تولى بعده من السلاطين.
هذه البيعات المختلفة لكل منها خصوصيتها بالنظر للمبايع له والفترة التي تمثلها البيعة من تاريخ المغرب، والفئات التي عقدت تلك البيعة. فبيعة العاصمة العلمية فاس ذات أهمية بالغة بالمقارنة مع غيرها باعتبارها مركز الحكم ومركز العلماء الذين يشكلون طرقا في الفئات المبايعة.
ونصوص هذه البيعات كلها تبرز الأصول الدينية والشرعية للبيعة، كما يتبين ذلك من قراءة أي نموذج لها.
أكنسوس في بداية كتابه ” الجيش العرمرم” يذكر ما سبق أن عرضته حول الأصول الفقهية للبيعة متعرضاً لشروط أهل الحل والعقد وغير ذلك. ويبين أن الإمامة هي رياسة عامة في أمور الدنيا والدين خلاقة عن النبي (ص). فالبيعة التي بها ينعقد الأمر للإمام أو السلطان تعتبر العقد الذي يخول للمبايع له مباشرة السلطة على عموم أهل المنطقة المبايعة وبالتالي تتيح له تعيين العمال والقضاة ومن إليهم فيها يقول أكنسوس:
” المبايعة راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد فعليهم يتعين نصب الإمام ويتعين على الناس جميعا طاعته، فليس لأحد أن يقول أنا لم أبايعه ولم أحضر بيعته، فإن المعتبر إنما هو متابعة أهل الحل والعقد ولو انحصروا في شخص واحد”.
ثم بعد ذلك يعطي تفصيلات عن شروط أهل الحل والعقد كما تقدم.
3- البيعة المكتوبة في العهد العلوي من حيث الشكل والمضمون:
إن التعرف على شكل ومضمون البيعات في القرن 19 على الخصوص يعطينا صورة ولو جزئية مما تمثله هذه الوثيقة بالنسبة لموضوع السلطة واختيار من يمارس الحكم من أهمية.
أ- من حيث الشكل:
الملاحظ أن البيعات أشكال مختلفة، فهناك البيعات الطويلة والتي تذيل في نهايتها بتوقيعات المبايعيين، وهي غالبا ما تكون للمدن الكبرى (العواصم) فاس ومراكش والرباط، وتكون منمقة بطريقة تذكر بما أدرجه القلقشندي فيما يجب مراعاته عند كتابة البيعة.
وهناك البيعات القصيرة والتي تكون للمدن الصغرى وبعض القبائل لكنها تحتفظ على إطار ملخص للبيعات الطويلة.
ثم هناك بيعات لا تذكر فيها سوى قوائم بأسماء المبايعين وتوقيعاتهم( مجموعة بيعات للحسن الأول مثل بيعة رودانة وقبائلها) وقد توزع هذه الأسماء حسب الفئات التي تمثلها.
إذن البيعات التي يمكن أن تمثل الشكل العام للبيعة هي الأولى والتي قد تعبر عن مضمون متقارب يلخص كالتالي:
ب- من حيث المضمون:
في ديباجة أولى هناك التأكيد على المنابع والأصول الدينية للبيعة من قرآن وحديث وارتباط ببيعات الخلفاء الراشدين. وبيعة الرضوان.
التأكيد على أهمية منصب الإمامة ( السلطان) واعتبارها هبة إلهية لمن اختير لها.
التأكيد على أهمية النسب العلوي للسلطان والافتخار بتوفره.
التلميح إلى أسباب عقد البيعة من وفاة السلطان السابق أو غيره وذكر ما يقتضيه المقام من ترحم على السلطان السابق. وذكر مناقبه.
التأكيد على الإجماع الحاصل من المبايعيين للسلطان الجديد.
الإشارة إلى الفئات المبايعة من أهل المنطقة وهم في الغالب:
العلماء –الشرفاء- الخاصة والعامة- الأعيان- الجيش إلخ.
في المضمون نجد خصوصيات من بيعة إلى أخرى مثلا:
– ذكر فئة مبايعة يختص بها ثغر من الثغور كالطبجية؟ بالرباط.
– خصوصية بعض البيعات وأهميتها مثل بيعة فاس كما سبق الذكر.
– خصوصية بيعة سجلماسة التي يوقع فيها الأمراء الأشراف وهذا يؤكد إجماع العائلة السلطانية على المبايع له.
ملابسات عقد البيعة في القرن التاسع عشر:
قد تكون إشارة الأستاذ التوفيق في كتابه عن إينولتان مفيدة حينما يقول:” إن وفاة سلطان قد تكون رمزاً للتحلل من عقد البيعة الذي هو نظريا في عنق الرعية”
وذلك حينما نعرف أن غالب الانتفاضات التي تقوم بها القبائل تأتي مباشرة بعد وفاة السلطان، لهذا نجد انعقاد البيعة لسلطان جديد. قد يعتبر إعادة للأمر إلى نصابه. ومحاولة إلزام للرعية ببيعة جديدة لهذا، فالمبايع له يحرص تماماً على جمع البيعات من مختلف المناطق.
يرى الأستاذ العروي أن انعقاد البيعة يصطدم بعدة صعوبات منها:
تعدد المنتظرين والثورات وعدم ترك وصي أو ولي للعهد. ولا بد من التغلب عليها جميعا. فعدم ترك وصي أو ولي للعهد يستدعي اجتماع أهل الحل والعقد لاختيار سلطان جديد. وتعدد المنتظرين يقتضي محاولة الوصول إلى إجماع حول شخص واحد. وتمكينه من التغلب على منافسيه إذا ما جاهروا بذلك. وهنا نرى أهمية بيعات الأمراء الأشراف للسلطان الجديد وذلك في بيعة تافيلالت. وهذا الأمر يجرنا إلى التأكيد مرة أخرى على أهمية بعض البيعات في التمكين للسلطان مثل بيعة أهل فاس لأنها مركز العلماء وبيعات قواد الجيش الذين يمثلون القوة التي سيعتمد عليها السلطان.
أما الثورات، فيعتبر القضاء عليها من المهام الأولى التي تلقى على عاتق السلطان الجديد، ولعل هذا ما عبر عنه الأستاذ العروي بقوله بأن السلطان بمجرد حصوله على البيعات يقضي وقته في تأكيدها.
لابد كذلك من الإشارة إلى نسخ البيعة، فمن خلال ما ورد في رسالة علماء المغرب إلى محمد بن عبد الله السعدي ( المسلوخ) والتي يمكن القياس عليها، نرى أن العلماء يرون أن خلع السلطان جائز إذا فرط في بلاد الإسلام، لما يترتب عنه ذلك من التراجع عما التزم به في بيعة الناس له. لهذا، نجد أن العلماء حينما أفتوا كذلك بخلع مولاي عبد العزيز وبيعة مولاي عبد الحفيظ أظهروا في شروط البيعة الجديدة التزام السلطان بالدفاع عن البلاد أمام التدخل الأجنبي الشيء الذي لم يستطع القيام به السلطان المخلوع.
وتعتبر هذه البيعة أساساً بمثابة تحول هام في نسق البيعة عموماً بمقارنتها مع البيعات السابقة، فهي في نفس الوقت، الذي تؤكد فيه على نفس الشروط الفقهية للبيعة وضرورة احترامها تضيف إليها شروطا جديدة هي بمثابة مشروع إصلاح للحالة التي وصلت إليها البلاد آنئذ، وبالتالي فهي توضح رؤية العلماء السياسية كل ما تفاقم من مشاكل البلاد.
ويمكن إجمال خطوط هذا المشروع الإصلاحي فيما يلي:
– إلغاء معاهدة الجزيرة الخضراء.
– استعادة المناطق المحتلة.
– وضع حد للحمايات.
– إلغاء المكوس.
– تقوية مبادئ الإسلام.
– إلغاء الامتيازات الأجنبية.
– إصلاح التعليم.
– الدعوة إلى استشارة السكان في كل ما يتعلق بالعلاقة مع الأجانب.
وعلى الرغم من أهمية هذه البيعة فهي لم تمثل إلا إجماعاً جزئياً من طرف العلماء، لأن منهم من بقي على ولائه للسلطان مولاي عبد العزيز، الشيء الذي حسمت فيه تطورات الأحداث فيما بعد المرتبطة بدور الأجانب في الأمر، وما يترتب عنه من انقسام إلى أن آل الأمر نهائيا للسلطان مولاي حفيظ حيث بقي يحاول الالتزام بشروط البيعة المناطة به إلى أن تجاوزته الأحداث، واضطر للتنازل عن الحكم مباشرة بعد توقيعه لعقد الحماية سنة 1912 حينما وجد نفسه خارج الشروط التي جاءت في البيعة المشروطة الآنفة الذكر.
النظريات الحديثة حول البيعة:
نظراً لغموض هذا الموضوع بالنسبة لتاريخ المغرب، وخصوصاً في القرن التاسع عشر، كل من تطرق من المعاصرين لهذا الموضوع بدقة أو خرج منه برأي نهائي.
إلا أن أهم النظريات الحديثة يمكن أن نجدها عند ثلاثة من المهتمين بالموضوع: الأستاذ محمد الحبابي في بحثه عن الحكومة المغربية في مطلع القرن العشرين والسيد علال الفاسي في بعض كتاباته مثل حفريات عن الحركة الدستورية في المغرب قبل الحماية أو في ما ذكره في الحركات الاستقلالية.
ثم ما كتبه الأستاذ العروي في كتابه:” الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية”.
أ- نظرية الحبابي:
يخصص الأستاذ الحبابي القسم الأول من كتابه عن الحكومة المغربية في مطلع القرن العشرين للحديث عن حكم وسيادة السلطان في القانون المغربي، وفي الفصل الثاني من هذا القسم يخصص الحديث عن البيعة عامة فيما يسمى بالقانون المغربي، ومن خلال دراسته للبيعة يصل إلى الخلاصات التالية فيما يخص السلطة وهي:
– أن السلطان لا يعتبر مطلق التصرف في الحكم، وليس المصدر الوحيد للسلطة، بل هو يمارس سلطات محدودة ومراقبة.
– القانون المغربي لم يعرف سوى سلطة وسيادة الأمة والجماعة المغربية.
– الجماعة المغربية هي أم للسلطات حيث ترأس عليها السلطان، وتستمر في مراقبته، وهذه الخلاصات مستمدة من النظر إلى البيعة بمنظار قانوني، يعتبرها دستوراً للأمة يفسد خصائص الحكم في المغرب على اعتبار أن الأمة توكل السلطان في الحكم نيابة عنها وتحت مراقبتها.
ويبحث الحبابي في أثر البيعة على توسيع سلطات السلطان ليؤكد الخلاصات السالفة، فيرى بأن البيعة تحد من سلطات السلطان ولا توسعها وكدليل على ذلك، يأتي بما ذكر في الاستقصاء من رجوع السلطان إلى الأمة للاستشارة، وذلك في شخص علمائها باستشارتهم في جواز وسق بعض المواد إلى أوربا.
يرى الحبابي كذلك أن البيعة هي التي حددت طبيعة حكم السلطان، فنظراً لطابع المراقبة الذي تتضمنه فإن السلطان:
– لا يحكم بحرية واستقلال مطلقين بل يرجع للاستشارة كلما كانت ضرورية.
– تصرف السلطان في أموال ومصالح الجماعة يكون فيما يرجع عليها بالنفع، وهو في هذا يفرق بين مصالحه وأمواله الشخصية وماهو للأمة.
– يعطي مثال عملية الإقطاع لكبار موظفي الدولة، ويعتبرها عمليات إدارية يقوم بها السلطان في مال الجماعة، ليتصرف فيها البعض لأنهم يخدمون مصالح الأمة.
– أهمية طريقة الاحتفاظ على بيت مال المسلمين (توزيع المفاتيح على مجموعة من الموظفين ).
– الدور الأساسي الذي يلعبه العلماء في الاستشارة والبيعة نظراً لمعرفتهم بمقاصد الشريعة وأحكامها.
الملاحظ على هذه النظرية أنها مستمدة فقط من الحوادث التي شهدتها السلطة في المغرب في نهاية القرن 19، وخصوصا ما تعلق منها بظروف خلع السلطان عبد العزيز وتولية عبد الحفيظ. وبالتالي من الأحداث التي صاحبت التدخل الأجنبي في المغرب.
وبالتالي تهمل النظر إلى طبيعة السلطة ودور البيعة قبل ذلك في تاريخ العهد العلوي.
نظرية علال الفاسي:
يقول علال الفاسي في كتابه: الحركات الاستقلالية عن الحديث عن بيعة عبد الحفيظ:” وهكذا تعتبر البيعة عقداً بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية، فليس من حق السلطان منذ الآن أن يبرم أية معاهدة تجارية أو سلمية إلا بالرجوع ومصادقته، وتقييد المعاهدات المسموح بعقدها بعد الاستشارة.
إلى أن يقول:
” ونحن نرى في هذه العبارات العتيقة معنى يتفق وروح ميثاق حقوق الإنسان الفرنسية الذي ينص على أن السيادة كامنة في الشعب ولا تقبل التفويت.
نفس هذه الأفكار يكررها علال الفاسي في تقديمه لمذكرة مرفوعة من كاتب مجهول إلى السلطان عبد العزيز، والتي يعتبرها من أوائل محاولات الحركة الدستورية في المغرب، وهكذا نجد أن علال الفاسي بدوره ينطلق من البيعة المتميزة وهي بيعة مولاي عبد الحفيظ ليعطي تفسيراً للبيعة على أنها عقد بين الملك والشعب، يبين نظام الحكم ويخرجه في تلك البيعة- من الحكم المطلق إلى الحكم الدستوري.
لا بأس هنا أن أشير إلى أن عبد الكريم غلاب في كتابه التطور الدستوري والنيابي في المغرب، يسير في نفس اتجاه علال الفاسي بعد أن يعرف البيعة عموماً على أنها:
” استفتاء للشعب يؤخذ فيها رأي ذوي الرأي ورأي الشعب على السواء في الحاكم الذي يختار أو في العمل الذي يقوم به الحاكم”.
ويعتبرها مصدر السلطة التي يتولاها الحاكم، وهي القوة التي يستمدها من الأمة، فلا تجوز له سلطة الحكم إذا رفضت الأمة مبايعته، واعتباراً لبيعة المظهر الرئيسي للعقد الذي يوجد بين الحاكمين والمحكومين والمتمثل في سيادة الأمة.
نظرية الأستاذ عبد الله العروي:
بعد استعراضه لظروف تولية أربعة سلاطين من العهد العلوي في القرن التاسع عشر. يوضح صفة المعاهدة التي تتضمنها البيعة باعتبارها عهداً بين الرعية والسلطان، ويشير إلى الصعوبات المتعددة التي تواجه المبايعة في الظروف التي استعرض أمثلة عنها، وركز فيها على بيعة السلطان عبد العزيز، واستخلص من كل ذلك أن السلطان يختار من طرف مجموعة خاصة تمثل القصر بمفهومه الواسع، ذي العائلة السلطانية وما يحيط بها من خدام ورؤساء جند وغيرهم ممن يمثلون خلايا حقيقة للسلطة، فالانطباع العام الذي خرج به الأستاذ العروي ينحصر في مايلي:
– اختيار السلطان من طرف أقلية ممثلة للقصر ورجال البلاط.
– اعتبار القصر والخاصة وقسم من ممثلي المدن هم الأقلية الحاكمة.
– التأكيد على دور المال والقوة في الحصول على تأييد الأمة للشخص المبايع له.
وعلى الرغم من كل هذه النظريات يبقى التساؤل العام حول المفهوم وارداً بإلحاح، ويبقى كل تفسير لتاريخ المغرب مرتبط بإيجاد تفسير للبيعة، وما تمثله من إشكاليات خصوصاً حينما تربطها بمواضيع أخرى “كبلاد البيعة وبلاد المخزن كتفسير استعماري للاستقرار في المغرب” أو بقضية فسخ البيعة، كما حدث مع مولاي عبد العزيز أو غير ذلك من المواضيع.
المقارنة مع نظام البيعة عند الزيدية في اليمن:
الالتقاء بين الزيديين في اليمن وسلاطين المغرب، يكمن في أن إدريس الأكبر يعتبر أخاً رابعاً للأئمة السادس والسابع والثامن الزيديين، إلا أنه مؤسس دولة سنية في المغرب وهو أئمة لنظام شيعي في اليمن، فهل تعطي المقارنة بين النظامين فيما يخص البيعة نتائج معينة لتوضيح جلية الأمر بالنسبة للبيعة في المغرب؟
إن محاولة التي تمت بها لم تعط سوى نتائج جزئية وبسيطة هي كالتالي:
– المذهب الزيدي يعتبر أقرب مذاهب الشيعة إلى مذهب السنة والجماعة السائد في المغرب.
شروط المبايعة متقاربة مع ما يلح عليه فقهاء السنة في المغرب إلا أنها تزيد عليها بـ:
أن يكون الإمام على ما يقتضيه منصب الإمامة من العلم للاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها.
القدرة على الخروج بنفسه للقتال الشجاعة.
– الإمام مصدر كل سلطة في الدولة والمناصب التي يخولها غالياً لأفراد أسرته شرفية معطلة من أي نفوذ.
– فيما يخص مبايعة الإمام نورد ما جاء عن أمين سعيد:
” القاعدة المتبعة عند اليمانيين حتى عهد الإمام يحيى ابن حميد الدين، أن يجتمع أهل الحل والعقد عند وفاة الإمام ويراد بهم كبار علماء الدين ورؤساء القبائل وشيوخها وأهل العصبية والمكانة فيختارون سواه”. بيد أنه أبطل هذه العادة، بعدما صارت اليمن دولة ذات حول وطول، وسلطان فهي تأخذ الولاية لكبير أنجاله الأمير أحمد اتقاء ما يولده موت الملك بدون ولي عهد معروف من مشاكل وفتن لا تؤمن مغبتها”.
– إن هذه المقارنة مقارنة محدودة في الزمن، فهي لا تتعدى مراحل قيام سلطة العثمانية، وأمام التدخل الأجنبي، وهي محاولة للبحث عن الأصول ونقط التشابه بغض النظر عن الاختلافات العديدة بين النظامين اليمني السابق والمغربي المستمر حيث أن تلك الاختلافات هي التي تفسر انقراض الأول واستمرار الثاني.
كخلاصة:
يمكن القول بأن البيعة قد تعبر عن رمز للنظام السياسي في المغرب المنبثق من الأصول الإسلامية، والقائم على عقدة بين الطرفين: السلطان والرعية.
وأن اختيار السلطان تقوم به أقلية تتمثل في أهل الحل والعقد ومن ممثلين للفئات التي ترد في البيعة.
فهل يعني هذا أن البيعة تعتبر دستور التأسيس الدولة في المغرب أو محاولة لتقويتها بعد مرحلة ضعف وهي موت السلطان القديم؟
يبقى دائما التساؤل مطروحاً حول مفهوم البيعة وحول دورها في تفسير تاريخ المغرب، خصوصاً وأن امتداداتها تهم مغربنا المعاصر الذي يحاول الحفاظ على الأصول والجذور وعدم التفريط فيها، ولكن في محاولة كذلك للخضوع لمنطق التطور والتجديد ومسايرة العصر، فهل سيصبح للرأي العام الوطني، أو ما يسمى ( بالمجتمع المدني) دور ما في الحلول كل ما كان يعرف سابقاً بأهل الحل والعقد والدين لا زالوا يؤطرون جانباً مهما من جوانب الجماعات الضاغطة التي تساهم في بناء واستمرار استقرار السلطة في البلاد.