الثورة الليبية : بين الرغبة في الانتقام وحب السلطة والمال/ أكلي شكا

“الثورات دوماً فاشلة, لا وجود لثوراتٍ ناجحة، ولن يكون لها وجود, إنها لا تحقّق أبداً ما قامت من أجله, الثورات تنتهي دوماً لإقرار نقيضها”  نيقولاي بردياييف**

بهذه الافتتاحية المخيبة للامال في رأي برديائيف الذي رأي ان مصير اي ثورة هو الفشل وان ليس هناك وجود لثورة ناجحة في العالم, أحاول إجراء مقارنة بسيطة بين الثورتين, ثورة الفاتح وثورة 17 فبراير من حيث الاهداف والنتائح, وهل فعلا كل الثورات محكوم عليها بالفشل كما أدعى برديائيف, أم أن الامر مقتصر فقط على الثورات الليبية المعاصرة ؟

أولا ثورة الفاتح : جعجعة بلا طحين

في ليلة حالكة من ليالي عام 1969 قادت طغمة من الضباط بقيادة الملازم الشاب معمر القذافي, البالغ من  العمر انذاك, سبعا وعشرون ربيعا إنقلابا عسكريا على إدريس ليبيا الاول (محمد ادريس السنوسي)  بعد زيارة قصيرة قام بها الى تركيا واليونان لغرض الاستجمام وتلقي العلاج. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان!

لم يكن القذافي أو قادة الانقلاب معروفون في الاوساط العامة على الاقل في الليلة التي سبقت الانقلاب بأستثناء قلة قليلة من طلاب ثانوية سبها التي منها خطط المنقلبون لانقلابهم. ولكن سرعان ما أعلن عن هوية قائد الانقلاب وانتشرت الاخبار كما تنتشر النار في الهشيم. فجاء خبر الانقلاب أولا عبر إذاعة بنغازي ثم نقلته الاذاعات العالمية التي نقلت خبر فكانت اذاعة البي البي سي الانجليزية في المقدمة ثم اذاعة مونتيكارولو الدولية.

جل متتبعي لاحداث “ثورة الفاتح” يرون أن هناك مجموعة من العوامل التي ساعدت في نجاح إنقلاب 69 الذي لم ترق فيه قطرة دم واحدة كما تخبرنا السجلات التاريخية, ما دفع زعيمها الروحي (معمر القذافي)  بأن يطلق عليه بكل جدارة إسم “الثورة البيضاء” التي سرعات ما تحولت إلى أكثر الثورات سواد وعنفا, بل إلى أكبر الثورات القرن العشرين دموية, ربما نستطيع أن نحصر تلك الاسباب في النقاط التالية:

  1. نتيجة الفوضى والاستياء الذي كان يهيمن على الشارع الليبي مع تزايد إنخفاض شعبية الملك وتفاقم الانقسام القبلي بين الاقاليم الثلاثة (إقليم فزان وطرابلس وبرقة).
  2. عدم وجود جيش أو جهاز مخابراتي للمك حتى انه يقال ان حراسه الشخصيين بل معظم قواته الخاصة كانت ترتدي زيا مدنيا.
  3. التراخي والتسيب الذي أشتهر به الملك ناهيك عن الطابع التصوفي الذي يجعل من السلطة الدنيوية امرا غير جدير بالاهتمام ما اثر كثيرا في شخصية و سياسة الملك.
  4. تزايد انصار القومية العربية ودعاتها في ليبيا وتأثيرهم بثورة جمال عبدالناصر في مصر الذي كان القذافي من بين اهم حاملي ومتشاربي فكره القومي في ليبيا حتى انه لقبه بزعيم الامة العربية .

هذه الاسباب وغيرها لا شك انها ساهمت بقدر كبير في تسهيل عملية إختراق أجهزة الملك دون أن يجد القذافي وطغمته الكثير من الصعاب والعناء في إنجاز مهمتهم .

لقد حمل القذافي في البداية مشعل ثورة التغير, ثورة رفع الظلم عن كل مظلوم وصرخ بأعلى صوته دفاعا عن الضعيف والمحتاج وذي كل حق في ثورة “الفاتح” التي تولى فيها دور الفاتح المعصوم من الاخطاء بعد ان اجهز على الملك واجهزته الخاصة التي اتهمهما بالفساد والرجعية والتواطؤ مع الغرب والعمالة لهم ملفقا للملك المسالم تهم عرض البلاد للبيع ومسؤولية تردي مستوى المعيشة للمواطن الليبي البسيط الذي لم يستفد من الثروة النفطية التي تزخر بها البلاد.

برغم من كل التهم والشعارات الفضفاضة التي رفعها القذافي في وجه الدولة الملكية الا انه لم يقم سوى بتغيرات بسيطة التي لم تشمل كل الليبين بل انحصر الامر في ابناء القائد ورجاله المحيطين به وافراد قبيلته ومن يدور في فلكهم. اما التصفية وقطع الرقاب بلا رحمة فشملت الجميع وبالتساوي كما شملت كل من تجرأ في زعزعة والتقرب بكرسي الزعيم أو تحدث سوء عنه. حيث عرفت ليبيا لاول مرة في تاريخها المعاصر مصطلح التصفية الجسدية والقتل الجماعي وتشييد السجون السرية ونصبت المشانق في الساحات العامة وزج الليبيون في اتون حروب دولية واقليمة; في حرب تشاد وكونجو كما ارسل مئات الشبان اليافعين خاصة من ابناء الطوارق للمشاركة في الحرب اللبنانية-الاسرائيلية التي مات فيها الكثيرون وفقد فيها اخرون, لا لشيء سوى لاشباع رغبات “الاخ القائد” الهستيرية.

ومع مرور الوقت لم يبقى للمواطن العادي البسيط من الثورة التي عقد عليها كل اماله وتطلعاته سوى الشعارات الذائفة وسرعان ما ادرك الجميع ان “الاخ القائد” ما هو الا مجرد شخصية كرتونية تتظاهر بمظهر القائد الثائر الفذ والزعيم الحامل لامال والام الامة, الشعارات التي لم يتوانى العقيد المنهار برفعها بل لم يجد حرجا في ترديدها حتى قبل ان يلفظ أنفاسه الاخيرة يوم 2011.10.20  في مدينة سرت التي كتب لها القدر ان يسقط فيها رأس الزعيم مرتين, مرة عندما زار الدنيا ومرة عندما غادرها.

ومهما كان زيف وبهتان تلك الشعارات التي تغنى بها العقيد الراحل, الا انها على ما يبدو كانت كافية في استقطاب واستغفال قدر كبير من ابناء ليبيا في الثوران ضد ادريس ليبيا الاول.

يقينا ان القذافي لم يكن استثناء من بين قادة الثورات والانقلابات العسكرية في العالم, فالمنقلبون دائما لديهم اسباب كافية ومقعنة تجعل من ثوراتهم في باديء الامر ثورات من اجل التغير ورفع المظالم ونصرة الحق والوقوف بجانب الضعيف وفي نهاية المطاف تنحرف الاهداف عن مسارها وتنزلق المبادئ التي قامت من اجل تحقيقها إلى منحدر الاقصاء والاستبداد, حينها تسقط الاقعنة وينكشف المستور لتعود الامور إلى ما كنت عليه.  فالانقلابات العسكرية عبر التاريخ, تأتي دائما من أجل ترسيخ الولاء المطلق للحاكم والفرد وتمجيد المستبد وتزييف الوعي وترسيخ طابع الاستبدادي والقضاء على أمال النماء والحريات العامة.  الاشياء التي تأمل المجتمعات البائسة والباحثة دائما للحرية وتدفع بلفذات اكبادها في كل ثورة تقام من اجل تحقيقها.   لكن يبدو أن نتائج الانقلابات العسكرية دائما كارثية ومتطابقة على البؤساء, حيث اسفرت كل الانقلابات العسكرية في العالم عن نتائج مفجعة ومؤسفة فكل الانقلابات العسكرية تتقاسم مبدأ القوة والقهر فهي لا تستند إلى المرجعية الشعبية, فالثوارت لا تفرض بالقوة ولا تقوم بها جيوش وإنما تقوم بها الشعوب وهي لا تأتي عن طريق المدرعات والالات العسكرية, إنما تأتي من الناس المضطهدين الذين لا يبحثون عن السلطة وانما يسعون للخلاص من القمع والتهميش والفقر كما هو حال الثورة الفرنسية والامريكية. أما الانقلابات العسكرية تأتي دائما لتصادر الحريات وتقمع الرأي وترهب الناس وترغمهم على الصمت والولاء.

ثانيا ثورة 17 فبراير: حراس المعبد القديم…

معظم وسائل الاعلام وخاصة الغربية منها تشير الى ثورة 17 فبراير بالحرب الاهلية الليبية, وذلك لان المتحاربين هم  من فئات الشعب الليبي, بمعنى أن العدوان لم يقع من الخارج أو من دولة خارجية.

أن الاوضاع حتما لا تتحسن بأنتقال السلطة من مستبد سابق إلى مستبد لاحق, وأفظع ما في الامر حين يصير اللاحق أكثر أستبدادا من السابق. إنما تتحسن الاوضاع حين تتغير الرؤية وتتبدل الممارسة فتنقل السلطة من حكم الفرد إلى الشعب ومن الرؤية الاوحادية المغلقة إلى التعددية الفكرية المفتوحة.

لقد مرت ثورة فبراير بتغيرات مخيبة نحو الاسوأ,  فالانتقال كان عضوضا ومدمرا للرؤية وللقيم الانسانية التي قامت من اجلها, حيث اصبحت لغة التغلب والقوة هي المعيار واصبح البقاء للاقوى, وامس الصراع السياسي صراع من اجل مكاسب فردية عشائرية طائفية ايديولوجية عدة, فيما ظل القتل والترهيب جزء من الموضة الليبية, بذلك انتهكت كافة مبادي الثورة ومعها مبادئي حقوق الانسان. واصبح ثوار الامس هم دعاة القمع والاستبداد والرعب والخوف, ما قضى على كافة الامال وعلى البراغم الواعدة لسير نحو النضح الحقوقي ونحو الديمقراطية الفعلية.

البداية كانت في يوم 15 من شهر فبراير/شباط حين خرجت  مجموعة من الاهالي لتخليص الحقوقي والمحامي فتحي تربل من قبضة الامن الداخلي حيث ارتفعت الاصوات والهتافات الصاخبة المنادية باطلاق سراحه. ولم تمضي سوى بضعة ساعات حتى تحولت تلك الاصوات البسيطة الى ثورة عارمة هزت جميع المدن الليبية من اقصى الشرق الي اقصى الغرب, ومن اقصى الشمال الى اقصى الجنوب, وسرعان ما تجاوزت مطالب المتظاهرين البسيطة في إطلاق سراح معتقلهم إلى المطالبة بأسقاط اعتى وأقوى الانظمة قوة وشأنا في العالم المتمثل في نظام العقيد شخصيا. وماهي إلا أيام معدودة حتى أنتقلت شرارة الثورة وفيضانها الجارف إلى أقصى الغرب الليبي وبسرعة البرق وسقط في أيامها الاولى اكثر من 400 شخص بالرصاص الحي.  وفي يوم 17 فبراير انتفض الشعب الليبي في الداخل والخارج في مظاهرات شعبية عارمة شملت معظم الغرب الليبي, فأنتفضت مدن يفرن والرجبان ونالوت وجادو وكباو وزوارة والزنتان وبعض مدن الجنوب.

المذهل حقا, هو كيف تطورت أحتجاجات بسيطة قامت بها مجموعة من النسوة من أجل اطلاق سراح محامي أيضا بسيط المتمثل في السيد فتحي تربل الذي سرعان ما تحول للاسف إلى فاشي قومجي شرس يتوعد الامازيغ في المجلس الوطني بالويل والاستئصال مباشرة بعد تحرير مدينته بنغازي إلى أكبر الثورات سيطا ودموية في شمال أفريقيا والشرق الاوسط عموما؟

لم يكن الليبين سواء في شرق البلاد أو في غربه معدين عسكريا أو معنويا للخروج لمواجهة حاكمهم الشرس, اذ أن جلهم مدنين عزل وبدون أي اسلحة تؤهلهم لمواجهة كتائب والترسانة العسكرية الهائلة التي يملكها العقيد المنهار الذي وعدهم في عدة مناسبات بالويل والحرق في خطابه المشهور “شدو الجرذان” الذي الفت حوله عدة اغاني ومسرحيات ساخرة.  وسرعان ما جاء دور إبنه سيف الاسلام ملوحا بسبابته مهددا الليبين بقطع الكهرباء والماء وإيقاف كل ما ينبض بالحياة.

من هنا أدرك الانسان الليبي أن خيار الدفاع عن النفس والاعراض هو الخيار الوحيد,  ولكن كيف لشعب أعزل مثل الشعب الليبي أن يجرؤ في مجابهة قاتله بصدور عارية؟

لا شك ان الذين سألوا انفسهم هذا السؤال في ذلك اليوم هم الغالبية وجلهم ينتمي الى جماعة “الزم بيتك” التي تتصدر المشهد السياسي اليوم في ليبيا, اما الذين واجهوا الة القتل القذافية وبصدور عارية هم الاقلية, ولكن تلك القلة الخارقة للعادة هي من ابهر العالم واجبروته بتقديم المساعدة بعد ان شهد الجميع على مدى بشاعة وقساوة القذافي وكتائبه الفتاكة, مما استوجب التدخل سريعا قبل ساعات قليلة من ارتكاب مجزرة انسانية في حق اهل بنغازي التي اطلق العقيد العنان لكتائبه بدكها دكا وبلا رأفة.  ولولا تمرير مجلس الامن الدولي لقرار 1973 في ساعة متأخرة من ليلة الجمعة الموافق 2011.03.18 لما كانت بنغازي اليوم مدينة مستوية بالارض.

لقد ثار الشعب الليبي بدون أستثناء من اجل ازاحة نظام استبدادي جثم على صدورهم اكثر من 42 سنة ونيف, رأوا من خلالها كل انواع العذاب والاقصاء و دفعوا بفلذات اكبادهم الى محارق ساحات الوغى وكل غال ونفيس من اجل وضع النهاية له. حيث وصل عدد الشهداء إلى حوالى 5517 شهيد حسب تقارير الثوار والمجلس الانتقالي التي يراها البعض انها تقارير مبالغ فيها لكنها بالتأكيد ان عدد الجرحى والمبتورين وصل الى مئات الالاف حيث وصل عدد المفقودين وحدهم الى حوالي 2516 فيما استقر عدد المهجرين في 500,000 مهجر كما حصدت مئات الارواح جراء عمليات الانتقام بعد تدمير مدنهم وقراهم ومازال الحبل على الجرار.

أتذكر عندما كنت احرض إخوتي الطوارق عبر الهاتف ووسائل الاعلام المختلفة في بداية الثورة بالتخلي عن القذافي الذي كان يستعملهم كدروع بشرية وهم بالتأكيد أكثر المتضررين من بين جميع فئات الشعب الليبي سواء في عهده أو في زمن ثورة 17 فبراير. أتذكر كيف  كانوا يسخرون مني حتى وصفوني بالمجنون والخائن والعميل الكافر الخ…  كانت حجتهم دائما أيهما أفضل, عصفور في اليد أم عصفور في السماء؟  لا أنكر أنني لم أفهم تلك العبارة الساخرة إلا بعد فوات الاوان , أدركت يقينا أن أبناء عمومتي قد قرأوا جيدا كف ثورة 17 فبراير أحسن مني.

رغم إننا “كطوارق” لم نرى من القذافي منذ أن تولى السلطة إلا التهميش والاقصاء ولكن أبناء عمومتي أدركوا أن لا فرق بين القذافي المستبد ومن سيأتي بعده, وهو ما ثبت فعلا بعد تحرير كامل التراب الليبي حيث زاد التهميش وأرتفعت العنصرية وزاد القتل والاستهداف على الهوية ”العمامة”.

اليوم عندما أتذكر رنين كلماتهم وقهقهاتهم عبر الهاتف أجد نفسي بحجم بعوضة أمام تنبأتهم.

لا ترتابنا أدنى الشكوك في نزاهة أهداف ثورة 17 فبراير النبيلة وشرعيتها كثورة قامت من أجل التغير والعدالة الانسانية ولكننا في نفس الوقت, لن نتردد بنطق الحق وبكل حسرة ومرارة أنها أخفقت كثيرا خاصة في مجال حقوق الانسان والتعدد الفكري والثقافي وقبول الاخر, وواقع الامازيغ اليوم هو أبرز ما يجسد هذا الاخفاق الذي فاق كل التوقعات والتصورات وبعد كل تلك التضحيات الجسام التي قدمها اولئيك الفرسان من اجل دولة تكفل لهم فرص المساواة وحقوق المواطنة وبدون تميز . اليوم بعد مضي أكثر من خمسة سنوات من عمر الثورة,  يبدو جليا أن ورثة الفكر القذافي المنغلق مازلوا يتربصون في كل زاوية بل يفرضون ايديولوجيتهم المقيتة وبقوة في المشهد السياسي الليبي لمنع أي تقدم حقوقي مذهبي لغوي ثقافي وهذا ما حصل تماما للمسألة الامازيغية التي عانى أبناءها الحديد والنار,  حيث يرى حراس المعبد القديم من القومجية العروبية في ترسيمها شركا وكفرا وتمردا عليها.

إضافة إلى هذه الانهزامات والانتكاسات لثورة كادت أن تنافس الثورة الفرنسية من حيث المبادئي والانجازات, أصبح الاعتقال التعسفي والسجن العشوائي والتهجير القسري جزء من حياة الليبين, ناهيك عن تنامي التطرف والفكر الاصولي المتذمت وزادت وتيرة الاغتيالات وانتهكت حرمات الليبيات لاول مرة في التاريخ وكثر الاختلاس والسرقات التي تقدر بملايين الدولارات, مرة بأسم الحكومة ومرة بأسم الثوار ومرة أخرى تحت تهديد السطو المسلح وهو أكثر السينارويوهات شيوعا.

بعد كل هذا, هل يحق لنا أن نقول أن دماء الشهداء ذهب هباء, وأن بردياييف كان أيضا على حق؟!

*صحفي وأعلامي متخصص في الشؤون الليبية والافريقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى