
تراجيديا اسمها حكومة بنكيران والداودي، قضية الطالب المغتال “إزم” نموذجا
رشيد الحاحي
انزلاق سياسي وأخلاقي خطير ذالك الذي وقع عليه الوزير لحسن الداودي أصالة عن نفسه ونيابةً عن حكومة حزب العدالة والتنمية في قضية اغتيال الطالب المغربي والمناضل بالحركة الثقافية الأمازيغية المرحوم عمر خالق “إزم”.
فبالرغم من أن شطحات الوزير الداودي وتصريحاته العجائبية كثيرة ولا تحصى، ورغم أن الانتكاسات المصاحبة لحكومة البيجيدي في كل المجالات وتنصله من وعوده وانقلابه على المواطنين البسطاء أصبحت واقعاً يومياً حتى بالنسبة لنسبة هامة ممن صدقوا وعوده وصوتوا لصالحه، رغم كل هذا يصر وزراء حزب العدالة والتنمية على مفاجئتنا كل مرة بمستويات تنم عن رعونة سياسية وضمور معنوي وهو ما يستوجب منا وقفة تأمل وتحليل للموقف الحكومي الأخير في أبعاده السياسية والأخلاقية، كما للتراجيديات الفكرية والسيكولوجية المتواترة لشخص اسمه لحسن الداودي تصادف أنه وزيرنا في التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، ويا لجسامة هذه التسمية والمهمة ودلالتها السياسية والعلمية في الدول التي تحترم نفسها وشعوبها!
فبينما كان الرأي العام ينتظر أن يناقش الوزير المسؤول على القطاع وضعية الجامعة المغربية ويقدم على إجراءات منصفة ومبتكرة تعيد للجامعة المغربية جاذبيتها واستقرارها كمؤسسات للعلم والمعرفة وفضاءات للتكوين وللتدافع السلمي والنقاش الحضاري بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، وفي الوقت الذي كان الجميع يتوقعون منه على الأقل كلمة مواساة ودعم معنوي لأسرة وذوي الطالب المغتال، وذلك أضعف الإيمان، بدل ذلك فضلت حكومة البيجيدي التزام الصمت ونهج سياسة “الحياد والتشفي ” مستكثرة كلمة مواساة لأسرة شاب مغربي ذنبه الوحيد انتسابه للمغرب العميق ودفاعه عن أصالة الأرض المغربية وهويتها المتجذرة وتصديه الشجاع للخطاب الشوفيني الانفصالي في الجامعة ودفاعه عن وحدة المغرب وأمازيغيته.
وحينما اضطرت الحكومة محرجة للإجابة عن سؤال برلماني في الموضوع، ذهل الجميع من الكيفية التي تعاطى بها وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر مع السؤال المطروح، إذ أن الرجل حضر لقبة مجلس المستشارين وهو يستشيط غضباً ليس لتقديم توضيحات ولتنوير الرأي العام ولمواساة أسرة الطالب المقتول، بل لتقريع من تجرؤوا على مضايقته وتوبيخ “المشوشين” على حكومته بمسائلته حول حدث عنف واغتيال يندرج في نطاق مسؤوليته الحكومية !
لنتوقف عند كلام الوزير الداودي ورده خلال جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس المستشارين يوم 02 فبراير 2016، وهذا نصه ووصف طريقة تحدثه:
ما مسجلش ما مسجلش ( بانفعال وغضب وإشارات عنيفة باليدين)
وا الطالب عندو معرفة أولا الا
بغيتو توريونا أش نوهوا طالب (وهو يصرخ ويتلعتم وينطق بعبارات غريبة)
وكاتكولو رئيس الحكومة إعزوه
مشيت نتا مشاو ناس خرين
هادو لي كيدافعو مشاو إعزيوه (مستمر في صراخه وانفعاله الجسدي وكلامه الغريب)
لي مات فزنقا نمشيو نعزيوه
أش هاد كلام نتوما برلمان هادا برلمان الكلام اكون مسؤول (يصرخ في وجه البرلمانيين والمتتبعين بعدوانية ويوبخهم عن طرح السؤال)
فينما مات شي واحد عاوتني نمشيو نعزيوه
قلنا ليكم ما شي طالب والله اهديكم والله ارحمو واه (يستمر في الصراخ والعدوانية والتوبيخ .)
ما شي طالب الله ارحمو أو صافي!
لقد أرغى الوزير وارتعد جسمه وضل يصرخ وهو يلوح بيديه في وجه مسائليه في عدوانية شرسة، واختلطت عليه الكلمات حتى استعصى على الحاضرين والمشاهدين فهم بعض ألفاظه بينما كان همه الوحيد نزع صفة الطالب عن الشاب المغتال الذي لم يكن، حسب وزيرنا، سوى شخص من “الزنقة” لا تربطه أية علاقة بالحرم الجامعي ولا يستحق بالتالي كلمة عزاء ومواساة أو نناقش أمره أصلاً. وهذا كذب سياسي ورد لا أخلاقي وكلام غير مسؤول.
فكل المعطيات وإفادات أسرة المرحوم وزملائه تؤكد بأن الطالب قضى سنوات دراسته الجامعية بكلية الآداب بجامعة القاضي عياض بمراكش، وحصل منها على الإجازة في شعبة التاريخ برسم الموسم الجامعي 2014-2015، ولم يتسلم بعد وثائقه وشواهده من إدارة الجامعة، كما أنه كان يباشر إمكانية التسجيل بإحدى الماسترات بالجامعة المذكورة. ومن تم فتواجد المرحوم بالجامعة كان بصفته الطلابية والجامعية حينما تمت تصفيته، ولم يكن مجرد “أحد المارة” كما حاول الداودي أن يوهم بذلك البرلمانيين والمتتبعين والرأي العام.
إنه لمن المثير حقاً ملاحظة كيف ضل الداودي لوقت غير قصير يكرر عبارة “ما مسجلش ما مسجلش” بعنف وفي اعتقاده أنه كان يدلي بالدليل القاطع والحجة الدامغة على تحلله من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن النازلة. وبالتوقف عند ألمثن اللغوي والأسلوب ولغة الجسد في خطبة الداودي العصماء فالخلاصة تؤكد استخفافه الكبير بمقتل طالب مواطن، ونفاذ صبر قل نظيرهما بالواقعة، وحتى كلمة الترحم التي فاه بها الوزير فقد تلفظ بها على مضض مما أفقدها كل صدق أو معنى.
فإذا لم يكن الطالب المغتال، حسب منطوق كلام الوزير، “طالباً حتى” فإن الامتداد المنطقي لهذا الكلام وبلاغيات السياق ولسان الحال هو أنه “ليس مواطناً حتى ” و”ليس إنساناً حتى” لكي يشغل وزيرنا نفسه بأمره. وإن المرء ليتساءل إن كان الداودي لا يستشعر الوقع التحقيري لكلماته في حق كائن إنساني ومواطن مغربي ضحية جريمة غادرة، أو إن لم يكن على وعي بحمولة خطابه التبخيسية في حادث شنيع مبيت، حاول جاهدا إلصاقه حلة البساطة والتفاهة كما لو كان يغمز بعينه للجناة ويطمئنهم ويتمن جريمتهم!
لامناص من التوقف عند هذه الرسالة البليغة التي تشكل، كما أسلفنا، انزلاقاً جديداً من حيث شكلها ومضمونها في الممارسة السياسية بالمغرب لكونها صادرة عن وزير في حكومة عبد الإله بنكيران المنتميين إلى حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، وفي سياق ازدياد ظاهرة أحداث العنف الجامعي التي تعرفها عدة مواقع جامعية، ومقارنتها بما حصل منذ شهور من استنفار حكومي شامل حين قام رئيس الحكومة ووزيره في التعليم العالي ووزيرته المنتدبة في نفس القطاع بالتنقل المستعجل عبر طائرة خاصة لحضور جنازة الطالب المرحوم عبد الرحيم الحسناوي المنتمي لفصيل “التجديد الطلابي” الذراع الطلابي لحركة “التوحيد والإصلاح” و”حزب العدالة والتنمية” بالجامعات، والذي كان بدوره ضحية العنف بجامعة “محمد بن عبد الله” بفاس، وتقديم العزاء لأسرته وأقاربه وأصدقائه في الحركة الإسلامية بطريقة عاطفية أثارت انتباه المتتبعين وعموم المواطنين والمواطنات، خاصة صور الوزير الداودي الذي أجهش بالبكاء وفاض تعاطفاً وإنسانيةً ومواساة في كلمته التأبينية والأخوية. أليس هذا التمييز دليل قاطع على أن حكومة حزب العدالة والتنمية تتعامل مع المواطنين وتصنفهم على أساس انتماءاتهم الفكرية والإيديولوجية والحزبية؟ وهل سنكون مبالغين إذا ما نبهنا مرة أخرى لحقيقة أن الجماعة ومصلحتها وامتداداتها المحلية والخارجية تأتي عندهم في المقام الأول قبل الوطن وعموم المواطنين؟
إن على حكومة بنكيران والداودي تحمل كامل مسؤولياتها في الرسائل الخطيرة التي وقعت عليها عبر الكيفية التي تعاملت بها مع قضية الطالب الأمازيغي المغتال وليس أقلها المفاضلة العرقية والجهوية والإيديولوجية بين المواطنين وضرب الثقة في عدالة وحياد المؤسسات وإشاعة شعور الإحباط وفتح الباب أمام العنف والعنف المضاد.
ومن خلال تحليلنا لواقعة وسلوك الوزير الداودي، الذي ما كنا لنشغل أنفسنا به لولا أن منطق السياسة حكما به وزيرا علينا، أي أنه شخصية عامة تخضع للمسائلة لكونها تتمتع بصلاحية التدبير واتخاذ قرارات تؤثر على مستقبل أجيال من أبناء المغاربة، فلا مناص من القول الصريح بأننا إزاء ذهنية ونفسية عصابية تفتقد للحد المطلوب من الذكاء والمرونة الذهنية، ويحركها تصلب إيديولوجي لا يدع أدنى مجال للحديث عن الوعي والحكمة والخيال والتنور، والاتزان الفكري والسيكولوجي في التعبير والتواصل، وهي الملكات المفترضة في من تسند لهم مسؤولية عمومية جسيمة بحجم الإشراف على قطاع التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، أي الإشراف على نخبة المغرب الفكرية والأدبية والإبداعية والعلمية والتنموية المعول عليها لرفع التحدي في عالم يتسابق بسرعات ضوئية وفي كل المجالات.
وحتى لا يعتبر كلامنا مبالغا فيه يكفينا التذكير ببعض من مقولات الداودي المثيرة وقراراته الغريبة مثل تصريحه بضرورة إقفال كليات الآداب والعلوم الإنسانية كشرط لتقدم المغرب ومهاجمته لطلبتها واعتبارهم عالة على عائلاتهم وعلى المجتمع ككل وخطرا على مستقبل البلاد! أو منظوره ومعجمه الجهادي “الخلافاتي” لكل شاذة وفادة سياسية أو اقتصادية كالانتخابات وأصناف البنوك و غيرها، فهو لا يرى في ذلك سوى مدخلات نحو تحكيم الشريعة وتأسيس “دولة الخلافة الإسلامية” بالمغرب، وكأنه لا تكفيه خلافة البغدادي وشريعة الدواعش!
وأخيرا، فحجم الاختلالات والممارسات الفكرية والسياسية والأخلاقية من هذا القبيل، تفرض علينا طرح سؤال أهلية النخب التي تتحمل المسؤولية السياسية والإدارية في المغرب، فإضافة إلى شرط الشواهد الشكلية والانتماء التنظيمي في تحمل المسؤوليات، يتوجب كذلك طرح سؤال الأهلية الفكرية والعقلية والسيكولوجية لدى المقبلين على هذه المسؤوليات، لأنها مهام تتطلب الملكة الفكرية والإبداعية، ولأنهم أناس كغيرهم معرضون لدواعي الدهر وتبعاته على الأبدان والعقول.
نجدد الترحم على الطالب المغتال عمر خالق، ونسأل لذويه وأصدقائه وأسرته الصغيرة والكبيرة الصبر والسلوان.