
صراعيات ابن خلدون وفلسفيات ابن طفيل وجدليات هيغلية صوفية
شهد القرنان التاسع عشر والعشرون انفجاراً في كتابة الرواية. وبينما انتقل هذا النوع الأدبي المثير للإعجاب إلى لغات ومناطق جديدة، غالباً ما حلّ محل نثر إبداعي آخر، مستولياً على الحصة الأكبر من الاهتمام الأدبي.
بحلول الوقت الذي تعلّم فيه الكاتب الليبي العظيم ابراهيم الكونيالعربية، في عام 1960، كانت الرواية راسخة الجذور. بيد أن الكوني، الذي نشأ بين أبناء الطوارق الرحّل، لم يُرِد تعديل قصص طفولته لتناسب النموذج. بدلاً من ذلك، أراد تعديل الرواية لتناسب رؤيته. وبعد عدة محاولات، ابتكر شكلاً جديداً، وهجيناً وُلِد بالكامل مع ملحمته “المجوس”، التي تُرجِمت من قبل وليام هوتشينز، ونُشِرت [ترجمتها الإنكليزية عام 2018] من قبل مطبعة جامعة أوستن الأمريكية بتكساس.
في النثر العربي الذي سبق [عصر] الرواية، لم تكن أغلبية “الشخصيات” ذات شعور حقيقي ولا فريدة من نوعها بشكل خاص. قد تصوّر معضلة أخلاقية أو سؤالاً فلسفياً، أو قد تضيف حبكة مثيرة. بيد أننا لا نعرف إن كان شهريار وشهرزاد قد أصيبا بالنقرس أو فقدا أعصابهما على خدمهم، أو كافحا في علاقتهما مع والدتيهما. يمكن أن يُقال الشيء ذاته عن الشخصيات في العمل الفيلسوفي الصوفي “حي بن يقظان” لابن طفيل.
تستعير رواية الكوني بعض السمات من النص الرائد لابن طفيل في القرن الثاني عشر، وأخرى من فلكلور الطوارق، وأخرى من رواية “موبي ديك” لهيرمان ملفيل. وقد كان للكوني تربية هجينة مماثلة. إذ وُلِد في عام 1948، بين المتحدثين بلغة التماشق في الصحراء الليبية الغربية، مباشرة بعد استيلاء الفرنسيين على المنطقة. لم يتعلم الكوني العربية إلا حين بلغ الثانية عشرة من العمر، بيد أنه سرعان ما توافق معها.
ظلال ابن خلدون: تعجُّ رواية “المجوس” بجدلية (ديالكتيك) هيغلية-صوفية حول الحر والمستعبد، حول المرتحل والمستقر، حول المُوحّد المؤمن بالله والروحاني. الأحداث غالباً سحرية، إلا أنها ليست واقعية سحرية بل واقعية صوفية.
وانتقل، في سبعينيات القرن الماضي، إلى روسيا لدراسة الأدب المقارن وهناك تصارع مع نظريات الرواية، لا سيما نظريات الناقد الأدبي الماركسي جورج لوكاتش. عمل الكوني في روسيا وبولندا، كما عاش عقدين مثمرين جداً في سويسرا وانتقل في نهاية المطاف إلى إسبانيا، حيث يعيش اليوم [2019].
لكن أينما كان الكوني، بدنياً، فقد أخذت رواياته القرّاء إلى صحراء الحمادة الحمراء الليبية. هي في المقام الأول “صحراء العقل” –أو على الأقل هذا ما يقوله الكوني في المقابلات- ومع ذلك تضع التفاصيلُ القرّاءَ في مواجهة رياح القِبلي الحارة، التي تغذينا “ثلاث حفنات من الرمل يومياً”.
قد تنفخ الرياحُ الرمالَ في “ثنايا لا تشوبها شائبة” خارج خيمة كما لو كانت “تنشر ألسنة رمل جديدة وتمسح القديمة(…)”. كما أن الكوني خبير في وصف طريقة سير الجسم البشري حين تعصف به رياح الصحراء القاسية. بيد أن الكوني لا يهتم فقط بشعب الصحراء. ففي رواية “المجوس”، كما في كل أعماله، نباتات وحيوانات الصحراء هي كائنات حساسة للغاية.
يتناول الكتاب رغبات النباتات بتعاطف مثل التعاطف مع رغبات البشر، كما حين تنتظر أشجار الأكاسيا (الطلح) “بصبر وبحزن” حتى، “تهب نسمة من الشمال، فيلتقطونها بقممهم، ويمتصون الرطوبة ويستمدون الحياة منها”.
{هناك جانب خلدوني (1332-1406) في رواية “المجوس” الملحمية للكاتب الليبي إبراهيم الكوني. ومثل “مقدمة ابن خلدون” للفيلسوف المغاربي العظيم، تتتبّع رواية الكوني نزاعات الأجيال البشرية، لا سيما بين الشعوب المستقرة والشعوب الراحلة. يعجُّ الكتاب بجدلية (ديالكتيك) هيغلية-صوفية حول الحر والمستعبد، حول المرتحل والمستقر، حول المُوحّد المؤمن بالله والروحاني. الأحداث غالباً سحرية، إلا أنها ليست واقعية سحرية بل واقعية صوفية. – الناقدة الأدبية مارسيا لينكس كويلي}
ليس هذا مجرد تجسيم [عزو الصفات البشرية إلى الأشياء]. بالأحرى، يُقلّلُ التركيز عن البشر ليصبحوا جزءاً من المناظر الطبيعية الصحراوية، وليسوا محور تركيزها.
هدايا من الصحراء
يخبرنا الكوني، في خاتمة الكتاب، أنه عاد لزيارة الصحراء في عام 1987، حين كان على أعتاب الأربعين من عمره. كانت الهدية الأولى التي أعطته إياها روايته القصيرة اللامعة “نزيف الحجر”. بينما أثمرت الزيارة الثانية عن رواية “التبر”. وفي رحلته الثالثة، كُوفِئ بـ “اكتشاف أكبر”: ملحمته “المجوس”، التي يُحتفى بها بوصفها واحدة من الروايات العربية العظيمة في القرن العشرين.