في العلاقات الليبية التشادية

ابوالقاسم الربو

حدود مشتركة تصل الى اكثر من 1400 كيلومتر، يحتل قطاع اوزو معظمها، بعمق 100 كيلو متر، في مناطق صحراوية تفتقر الى مقومات العيش المستقر، وتضاريس متداخلة ومعقدة، لا تقل تعقيدا عن التداخل القبلي الذي جعل الكثير من العائلات منقسمة بين ليبيا وتشاد ، في مناطق عانت على مدار الخمسين عاما الماضية من فترات حرب اكثر ما نعمت بفترات سلام ، كثرت  فيها حالات التمرد العسكري ، والعصيان المتكرر ، والذي ادى الى خلق منطقة عدم استقرار، لاسيما بعد تدهور الوضع الأمني في الجنوب الليبي. تداخل جغرافي واجتماعي بين بلدين، جعل كلا منهما مرتبطا بالآخر، ارتباطا يجعله غير قادرا على ان يكون بمنأى عما يحدث للطرف الاخر.

حدود مترامية الأطراف ،غالبا ما تبعد عن سيطرة الحكومة المركزية في كلا البلدين ،  يتقاسم العيش والتنقل فيها  فيها عدة قبائل وعرقيات أهمها (التبو ) و(الزوية ) و(الطوارق ) و(اولاد سليمان)  ، والتي تشكل عائلات تتوزع ما بين تشاد والنيجر وليبيا ، منطقة يصعب فصلها بناء على حدود كل دولة ، فالتبو – على سبيل المثال – يقطنون الجنوب الليبي ويتمركزون خصوصا في مدينة القطرون ، في الوقت الذي يعيش جزء كبير منهم في تشاد ، يسكنون شمالها ويتواجدون في أقاليم ( بوكورو) ، و(اندي )  ، و(تيبستي )  حيث تعرف قبيلتهم  باسم ( القرعان ) ، وهم يشكلون اقل من 5 في المئة من السكان ، ومع ذلك لهم مشاركات دائمة وملحوظة في الانتفاضات المسلحة التي تحدث في شمال شرق تشاد . اما قبائل (أولاد سليمان) التي تستقر في فزان ، فلها امتداد ملحوظ في تشاد يعود الى قرابة القرنين وتحديدا منذ سنة 1842 ، وتتواجد خاصة في إقليم ( تيبستي ) و ( انيدي ) وفي محافظة ( كانم ) شمال بحيرة تشاد ، بل وفي العاصمة (انجامينا) نفسها ، في الوقت الذي يتوزع الطوارق على مناطق شاسعة بين دول المغرب الغربي وافريقيا ، في حين يتجمعون في ليبيا في الجنوب الغربي ، حول واحات (غدامس ) ، و(غات ) ، و(جبال اكاكوس ) , ويبقي وجودهم في تشاد منحصرا على بعض الأقليات .

وقد مرت العلاقات بين البلدين بالكثير من حالات الشد والجدب، وتأرجحت بين تبادل المنافع والعداء والحرب ، وايواء ودعم الحركات المناهضة في كل منهما ، وتأثرت المصالح المشتركة بينهما بالقضايا القبلية والحدودية المتداخلة ، كما كان للتغيرات السياسية التي حدثت في ليبيا الأثر المباشر على الأوضاع السياسية والاقتصادية في تشاد

الملكية والحركة السنوسية

        كان للقاء الذي تم بين مؤسس الحركة السنوسية الامام ( محمد بن صالح علي السنوسي ) ، والسيد ( محمد شريف بن حامد ) ( تشادي ) ، بداية لانتشار الطريقة السنوسية التي كان لها نفوذ ديني خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وخاصة في أقاليم      ( بوركو ) ، و ( ايندي ) ، و ( تيبستي ) في شمال تشاد ، حيث انتشرت الزوايا السنوسية في معظم هذه الأقاليم ، الا انه وبالرغم من هذا الانتشار الملحوظ ، الا ان ملك ليبيا (ادريس الأول)  لم يهتم كثيرا بخلق علاقات سياسية متينة مع الجارة الجنوبية , والتي كانت محتلة من فرنسا آنذاك ، علاقة لم تتحسن بنيل تشاد لاستقلالها في 1960 ، خاصة وان ( فرنسوا تومبالباي ) – اول رئيس تشادي بعد الاستقلال  – دفعه انتمائه القبلي الجنوبي الى تحسين وتوطيد علاقاته  مع دول الجوار الجنوبي ، ولم يهتم كثيرا بالعلاقات مع ليبيا     ( الجارة الشمالية ) .

بحلول عام 1965، ونتيجة للابتزازات التي تعرضوا له قبائل (التبو ) من قبل الحكومة المركزية ، ترك الكثير منهم مدنهم وقراهم وتوجهوا الى ليبيا ، حيث أُستقبلوا من قبل افراد قبائلهم الموجودين في ليبيا و، الذين كانوا يرغبون في اعلان الكفاح المسلح ضد        ( فورت لامي ) ( انجامينا حاليا ) ، هجرة القت بظلالها على العلاقات الليبية التشادية آنذاك ، خاصة عندما طالبت الحكومة التشادية في ( فورت لامي ) الملك ادريس الأول بترحيل (التبو) الى إقليم (تيبستي ) ، طلب قوبل بالرفض ، في الوقت الذي عمل فيه الملك ادريس على تفادي الصدام بين الدولتين ،  وكان ذلك واضحا في النصائح التي قدمها الملك عند استقباله لزعيم قبائل التبو ( ديردي كيديلي ) والذي كان من ضمن المهاجرين ، حيث طلب منه عدم اللجوء الى الكفاح المسلح ، لافتقار القبيلة الى التنظيم والعدد الذي يجعلها قادرة على مواجهة نظام ( فورت لامي ) بمفردها . واستنادا على ما سبق، فان الملك ادريس الأول عمل جاهدا على ان لا تشكل انتفاضة التبو مصدرا للخلافات مع السلطات في تشاد ، وفي نفس الوقت كان حريصا على مراعاة حسن العلاقة مع التبو ، والذين اعتمد عليهم في مواجهة الكثير من الحركات التي كانت تخطط لإنهاء حكمه الملكي في ليبيا . وبهذا يمكن القول ان العلاقات الليبية التشادية في هذه الفترة مرت بفترات فتور وعدم تناغم ولكنها لم تصل الى حد القطيعة او الصراع المسلح .

نهاية الحكم الملكي في ليبيا

في سبتمبر 1969، اطيح بالملك ادريس الأول، وتولى القذافي الحكم في طرابلس، ولم تمر الا اشهر ، حتى قدم النظام الجديد في ليبيا مقترحا للرئيس ( فرنسوا تومبالباي) بالمساعدة في حل قضية التبو ، وكذلك للتوسط بين الحكومة التشادية وحركة التمرد المسماة ( جبهة التحرير الوطني ) ، وهو في الواقع محاولة لإجبار نظام ( تومبالباي ) وحليفته فرنسا لمنح ليبيا دورا رئيسيا في تشاد من خلال معاجلة هذه القضية . في السابع والعشرين من أغسطس /  آب 1971 ، قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين طرابلس و ( فورت لامي ) ، والتي تدعم كلا منهما خصم الاخر ، ولكن تدخل فرنسا في اقناع حليفتها تشاد بفتح قنوات تفاوض مع المعارضة ، ادي بالرئيس    ( تومبالباي ) الى التقرب من جديد الى ليبيا ، على امل ان توقف دعمها العسكري لحركة التمرد ، وبالتالي ارسال رسالة لفرنسا بانه يمكن فتح قنوات أخرى دون موافقة فرنسية ، تقرب رحبت به ليبيا وسعت من خلاله الى طمأنته من خلال تقديم الكثير من المساعدات المالية لحكومته ، ولكنها في نفس الوقت لم تقطع صلتها ودعمها العسكري للمتمردين ساعية من خلال ذلك الى تعزيز موقف ومكانة ليبيا على الساحة التشادية . في العام 1975 تم اغتيال الرئيس ( فرانسوا تومبالباي ) ، ليتولى ( فيليكس معلوم ) الحكم ، بعد ان عينه الانقلابيون الذين شكلوا المجلس العسكري رئيسا للبلاد ، ،  حيث استمرت فترة حكمه لأربع سنوات ،  اخفق فيها في لجم الحرب الاهلية ، وتميزت فترة حكمه هذه بالاضطراب السياسي والحروب بين المجموعات المسلحة ، تلك المجموعات التي ترأس احداها     ( حسين حبري )، الذي وبالرغم من تعيينه رئيسا للوزراء ، الا انه قاد المتمردين ضد الرئيس ( فيليكس ) ، تمرد أدى الى حدوث حرب داخل العاصمة ( انجامينا ) ، الامر الذي استغله ( كوكوني ودي ) ،  وتمكن من احتلال العاصمة وتشكيل حكومة ( الوحدة الوطنية الانتقالية ) ، وكانت تلك هي المرة الأولى الذي يحكم فيها مسلم من الشمال تشاد بالكامل ، وتم تعيين حسين حبري وزيرا للدفاع ، غير ان علاقتهما لم تدم طويلا ، وحدث انفصال لم تقف فيه طرابلس على الحياد ، بل انحازت وبشكل قوي الى ( كوكوني ) داعمة إياه بقوة عسكرية ضخمة مكنته من الدخول صحبة القوات الليبية الى العاصمة ( انجامينا ) في ديسمبر / كانون الأول 1980 وهروب حبري الى الكاميرون .

وفي خطوة مفاجئة، وتحت ضغط فرنسي ، طالب ( كوكوني ) بخروج القوات الليبية من تشاد ، وبالفعل استجابت ليبيا ، وسحبت كل قواتها في غضون أسبوع ، الامر الذي استغله ( حبري ) من جديد ، وزحف بقواته الى انجامينا ليحتلها في يونيو / حيزران   1982 ليصبح رئيسا لتشاد ، وليدخل في صراع مسلح مباشر مع ليبيا ، لتحرير الشمال التشادي من القوات الليبية التي ظلت مرابطة به عند انسحابها من (انجامينا) ،  وبالفعل استطاع الحاق هزيمة كبيرة بقوات القذافي ، واسترجع قطاع اوزو ، بل واحتل جزء من الأراضي الليبية والمتمثل في ( قاعد السارة ) الجوية ، ووقع اكثر من 500 جندي ليبي  في الاسر ، وعلى راسهم ( حفتر ) الذي كان امرا رئيسيا لكل القوات الليبية في تشاد ،  واستطاع  ( حبري ) في تلك الفترة ان يكون الصخرة التي تحطمت عندها كل طموحات القذافي في تشاد .

لم يستسلم القذافي لهذه الهزيمة , وظل يتحين الفرص للانتقام ، الى ان وجد في ( ادريس دبي ) الذي كان قائدا عاما للقوات المسلحة التشادية ابان حكم الرئيس ( حبري )  ضالته بعد ان قدم له مساعدات كبيرة جعلته يقوم بقيادة جيش من المتمردين من السودان المجاور ، واستطاع احتلال العاصمة في 1991 ، ليستمر حكمه الى اكثر من 30 سنة ، سنوات ادرك خلالها بان احد متطلبات الاستقرار والبقاء في الحكم هو بناء علاقات استراتيجية مع ليبيا ، مع الاحتفاظ بعلاقات قوية مع الدول الغربية ، ولعب دور الحليف في الحرب على الجماعات الإسلامية المتطرفة بما في ذلك ( بوكو حرام ) في حوض بحيرة تشاد ، والجماعات المرتبطة بالقاعدة و( داعش ) في منطقة الساحل .

ثورة فبراير

انطلقت المظاهرات العارمة في ليبيا ، والتي طالبت بتخلي القذافي عن السلطة ، في وقت كانت العلاقات الليبية التشادية في احسن احوالها  ، الامر الذي أدى الى تردد  نظام ( ديبي ) في تأييده للثورة في بدايتها ،  لان ذلك ببساطة يعني فقدان حليف لطالما دعمه سياسيا وماليا ، وساعده على شراء الكثير من خصومه ، الامر الذي مكنه من البقاء في الحكم طيلة هذه السنوات . ولم تقف الأمور عند ذلك، بل اتهم بدعم القذافي ونظامه بأعداد من المرتزقة التشاديين ، الا انه ومع صدور قرار مجلس الامن رقم 1973 الخاص بحماية المدنيين المتظاهرين في ليبيا ، وحتي لا يجد ديبي نفسه محاصرا إقليميا ودوليا ، بل ومتهما في مساندة القذافي عسكريا ، اقدم في خطوة جريئة على الاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي ، اعتراف جاء متأخرا نظرا لحسابات خاطئة ظن فيها ان نظام القذافي سيكون قادرا على الخروج من الازمة , بل وتغيير دفة الاحداث لصالحه .

اهتمت الأطراف المتصارعة في ليبيا على المدن الرئيسية الواقعة على الشاطئ ولم تولي الاهتمام بالجنوب ، واستمر تهميش تلك المناطق بسبب قلة عدد سكانها ، وعدم أهميتها مقارنة  بالمناطق الغربية والشرقية الأكبر حجما والأكثر ازدحاما بالسكان ، منطلقة من قاعدة ان الجنوب ( وكتحصيل حاصل ) ، سيكون خاضعا وتابعا للطرف المسيطر على المدن الرئيسية مثل طرابلس وبنغازي وغيرها ، الامر الذي أدى الى غياب كل مظاهر الدولة في تلك المنطقة ، وأصبحت ملاذا للمهربين والمجرمين والكثير من المتمردين ، الى الدرجة التي تمكن فيها مسلحين من التبو التشاديين من الاستيلاء على المدن في فزان ، والسيطرة على تجارة التهريب في المنطقة , مستغلين سعي الأطراف المتصارعة في ليبيا استمالتهم بالمال وتسليحهم لمواجهة الطرف الاخر ، وخاصة ( حفتر)  الذي كون جيشا لا يستهان به من التبو ، واوكل اليه مهمة السيطرة على الجنوب لمواجهة أي تقدم لقوات الوفاق ( طرابلس ) ، وجند الكثير منهم في حربه على العاصمة طرابلس ، وقد شهدت معظم مدن الجنوب سيطرة تامة من هؤلاء المسلحين ، وخاضت الكثير من المواجهات مع الغريم التاريخي ( الطوارق ) من اجل فرض السيطرة على هذه المناطق , الامر الذي أدى الى هجرة الكثير من الاسر الليبية الجنوبية الى الشمال ( طرابس ) , والاسر التي كانت لديها أموال هاجرت الى تونس ومصر .

علاقة تاريخية وارتباط وثيق بين البلدين ، فرضته القبائل – وهي الوحدة الأساسية في التنظيم الاجتماعي والسياسي – واكدته التضاريس المتداخلة ، والمصالح المشتركة، والتأثير المتبادل للأحداث ، لاسيما في ظل حالة عدم الاستقرار التي تمر بها ليبيا منذ 2011   ، مما افرز وضعا امنيا رخوا ،  جعل الجنوب الليبي بؤرة صراع ، ونقطة تهديد ليس لتشاد وحدها ولكن لكامل المنطقة . وبالتالي لاشك في ان مقتل الرئيس التشادي ( ديبي ) في المواجهات الأخيرة مع المتمردين القادمين من ليبيا( حسب رواية الحكومة )  والذين تدربوا وتسلحوا بها ، سيكون له تداعيات على الوضع في ليبيا ، وسيضع المشهد الليبي امام ندر تداعيات سلبية ، وانه لا يمكن ان تكون ليبيا ، وخاصة في حدودها الجنوبية  ، بعيدة عن التغيرات الجيوسياسية المحتمل حدوثها في تشاد  ، فليبيا كانت وستظل قاعدة خلفية للصراع داخل تشاد ، وغالبا ما تتخذ المعارضة في تشاد من الجنوب الليبي نقطة للقيام بعمليات داخل العمق التشادي . ومن الجدير بالقول ان الأوضاع الليبية ستتأثر بغض النظر عن الطرف المنتصر في هذه المواجهات، فالطرف المهزوم سيسعى الى الهروب الى الأراضي الليبية ليجعلها نقطة انطلاق له ، الامر الذي سيدخل المنطقة في فوضى قد تخرج عن سيطرة أي حكومة مركزية ، وسيشكل عبئا إضافيا على حكومة الوحدة الوطنية التي تواجه الكثير من المشاكل التي قد تحد من فرص نجاحها في فترتها المؤقتة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى