قبائل الأنصار في سائر البلدان والأقطار

قبل عامين كنت في مناسبة اجتماعية عند أحد الأصدقاء الأقرباء، في مكة المكرمة، فإذا به يقدم لي أحد أصدقائه، بصفة الباحث في تاريخ الأنصار، المعني بتتبع أنسابهم، وتوزيع قبائلهم، والتعرف على مواطن وجودهم، ومحاولة رسم خريطة لتجمعاتهم في العصر الحديث، وسمعت منه، في حينها، بعض ما توافر له من معلومات ووثائق وما يبذله من جهود لتوفير ما يصح الاعتماد عليه في تقريرات البحث العلمي الموثوق، وانقطعت الصلة بأخبار الباحث، حتى قبل أيام حين اتصل بي القريب والصديق المشترك مصطفى مهدي سيد أحمد، الضابط في القوات البحرية، ليخبرني أنه ترك لي نسخة من كتاب «تاريخ قبائل الأنصار في سائر البلدان والأقطار» للدكتور ياسر حميد حامد آل عبدالوهاب الخزرجي الأنصاري، بعد أن عثر على نسخ محدودة منه في معرض الكتاب بجدة، وعاد مصطفى مهدي (أبو أيمن) ليذكرني بلقائنا بصاحب الدراسة في مكة المكرمة وتحدث عن الجهد الكبير الذي بذله الدكتور ياسر لإنجاز هذا العمل، فحفزني للمسارعة إلى الاطلاع على الدراسة لمعرفة ما انتهت إليه ولأعرف رأي الباحث في الإجابة على سؤال مشروع ومطروح: ما الداعي لإفراغ الجهد وقضاء ثمانية أعوام من السفر والتجوال في البلدان ومقابلة العشرات والبحث في مظان المعلومات لإعداد كتاب عن الأنساب، في زمن تتراجع فيه «الهويات الصغيرة» من قبيلة وجهة وإقليم لصالح تنامى «الهويات الكبرى» من وطن وأمة؟ وكأن الباحث استشعر إمكان طرح هذا النوع من الأسئلة، فبادر إلى تقديم الإجابة من دون أن يسأل «يرجع سبب التأليف إلى أمور عدة: أن المصادر التي ترجمت للأنصار قليلة لم تجمع في كتاب واحد، فهم ذكروا في كتب متفرقة وحاولت جمعها في كتاب واحد. يشاع لدى كثير من القبائل أن قبائل الأنصار انقرضت وأصبحت مجرد أسماء تذكر في كتب التاريخ، جاؤوا في زمن الرسول، صلى الله عليه وسلم، لنشر الدين مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فقط، وبعد قرنين بدأوا في الانقراض. إزالة الأفكار الخاطئة التي قد تكون عند بعض الناس، وأسهل طريق للوصول إلى أذهانهم هو التأليف». وبالمناسبة، لست من الذين ينظرون إلى «القبيلة» نظرة سلبية فهي، في تصوري، «أسرة كبيرة» تزرع في أبنائها قيم النخوة والشهامة والكرم والفضيلة وإشاعة روح التراحم بين أفرادها، كما هي صيغة للتوافق والتعايش والتواصل مع من حولها في إطار الوعاء العام «الوطن»، ولكن يصبح مفهومها مكروهاً وقبيحاً ومخالفاً لتعاليم الدين والقيم الإنسانية النبيلة حين تترجم إلى ظلم الآخرين والتعالي عليهم واحتقارهم والضيق بوجودهم وحرمانهم من حقوقهم، ومعرفة الأنساب ليست مسؤولة ولا علة لظهور العنصرية والتنابز بالألقاب، فهذه خصال مذمومة سببها الجهل ونقص الإدراك وعدم معرفة القيم والمبادئ والمعايير التي يقاس بها التفاضل بين الناس، وقد جاء الإسلام، وكل الأديان السماوية قبله، لنبذ العنصرية والكراهية والتعالي والتفاخر بالانتماءات القبلية والجهوية، بل جعل معيار الفضل وأسباب الرفعة القيم الثابتة المبنية على الإيمان بالخالق والامتثال لأوامره والتمسك بمقاصد شرعه التي تنظم العلاقات بين خلقه، حتى لتحرم الاعتداء على الجمادات من دون مصلحة أو دفع ضرر، فكيف بالاعتداء على الإنسان، الذي كرمه خالقه بالعقل وأناط به التكليف.

وهذه العصبة من ولد آدم (الأوس والخزرج) اختارهم ربهم لنصرة رسوله وإعلاء كلمته، في لحظة تاريخية فارقة، استجابوا لها، بهداية الهادي إلى سواء السبيل، فاستحقوا بها مرتبة تشريف لم ينلها غيرهم وحلوا مقاماً لم يرتق إليه إلا من اجتباه الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد آووا ونصروا وآثروا على أنفسهم وهم في خصاصة ونهضوا لتحمل الأمانة، والناس يتكالبون عليهم من كل مكان، فإذا قوة الحق وصدق العزم وتضحيات البر وكرم الحب يغمر النفوس ويحرك طاقاتها لنصرة النور الذي جاء به رسول الهدى، صلوات ربي وسلامه عليه، معلم الشجاعة والكرم والنبل والتضحية الذي قال فيهم «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار». واليوم يأتي أحد المتشرفين بالانتساب إلى «كوكبة النور» تلك، ليؤكد المبادئ والقيم التي آمنوا بها وأخلصوا لها وضحوا في سبيلها، وليذكّر الأجيال المتلاحقة بمسؤولياتهم تجاهها «هذا الكتاب فيه من مآثر الأنصار ومناقبهم وذكر بيوتاتهم ونسلهم في العالم الشيء الكثير، وقد قيدت فيه شتات الأخبار عن أبناء الأنصار في معظم الأقطار، التقطت شطرها من بطون الكتب واستفدت بعضها من ثقاة الرواة»، وهذا يشير إلى مصادره التي استقى منها مادة بحثه، مع إدراكه صعوبة الوصول إلى درجة اليقين في الكثير من الروايات والأخبار، ولتجاوز هذه المعضلة بما يطمئن إليه ضميره وتقتضيه أمانة البحث العلمي استند على القاعدة الشرعية التي يثبت بها النسب: الشهادة أو الإقرار، أو الاستفاضة، «كل ما ذكرته في قسم النسب هو ثابت لدي بشروط مثبتات النسب الشرعية والوثائق والمراجع العلمية على أنهم أنصار، وكل أسرة ذكرناها في قسم الرحلات ولم تذكر في باب النسب وقدمت الإثباتات الشرعية والوثائق العلمية سيتم إلحاقها في باب النسب».

قسم المؤلف عمله إلى مقدمة وتمهيد وعشرة أبواب وخاتمة، كل باب اختص بالمنتمين للأنصار في بلد أو إقليم واحد، فالباب الأول ضم الأنصار في الحجاز (مكة، المدينة، الطائف)، والباب الثاني تحدث عن الأنصار في نجد والقصيم، وتناول الباب الثالث الأنصار في جيزان وعسير، وخصص الباب الرابع للأنصار في الخليج العربي، والخامس للأنصار في اليمن، وغطى الباب السادس المنتمين للأنصار في بلاد الشام: فلسطين، سورية، لبنان، الأردن، وكان الباب السابع لعشائر وأسر الأنصار في العراق، في حين جاء الباب الثامن ليتحدث عن توزيع الأنصار في مصر، والباب التاسع للمنتمين للأنصار في السودان، وكان الباب العاشر والأخير لتجمعات الأنصار في المغرب العربي: ليبيا، موريتانيا، «تنمبكتو» والمغرب.قيل : «من ألف فقد استهدف» ولن يعدم الناقد والملاحظ ما يقوله في كل عمل إنساني، خاصة مثل هذا العمل، لموضوعه وتشعبه وصعوبة التثبت فيه، لكن يحمد للدكتور ياسر حميد آل خطاب الأنصاري قدرته على «التوازن» ما بين حسن الظن بالرواة ومتطلبات الدقة العلمية المحايدة، كما يشكر له الوازع الخير الذي دفعه لخوض مضمار جمع شتات قبائل الأنصار في هذا العصر وبذل الجهد في تمهيد الطريق لمن أراد أن يطور أو يعمق أو يفصل.

*الحياة :محمد المختار فال كاتب سعودي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى